][ نُعَيم بن مسعود الذي نصر الله به جيشا بأكمله ][ §
¤*~
إنه صحابي من ذوي العقل الراجح ، انه الرجل الذي رزقه الله فطنة
وذكاء ، ويقظة ودهاء ، إنه أبو سلمة نُعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي ،
الذي كان في الجاهلية على صلة وثيقة بيهود بني قريظة وغيرهم ،
وكان يجلس في مجالسهم يسمر ويشرب معهم وكانوا يحبونه ويثقون
فيه ويحترمونه.
~*¤
§ ][ إسلامه ][ §
¤*~
كان نعيم بن مسعود رضي الله عنه مع معسكر الكفار والمشركين في
غزوة الأحزاب ، وكان مستلق على فراشه في الخيمة ، يتقلب على مهاده
أرقا ، وفجأة رأى نفسه تسأله قائلة :
( ويحك يا نعيم ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نجد لحرب
هذا الرجل ، ومن معه ؟
فأنت لا تحاربه انتصارا لحق مسلوب ، ولا حمية لعرض مغصوب ،
وإنما جئت لتحاربه لغير سبب معروف ، أيليق برجل له عقل مثل عقلك
أن يقاتل فيقتل ، أو يقتل لغير سبب ..
ويحك يا نعيم ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح
الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ..
ويحك يا نعيم ما الذي يحملك على أن تغمس رمحك في دماء أصحابه
الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق )
هذه المناقشة كانت سبب سعادته إلى الأبد ، فاتخذ هذا الصحابي الجليل
قرارا حازما ، ونهض من توه لتنفيذه .
فتسلل رضي الله عنه من معسكر قومه تحت جنح الظلام ، ومضى يحث
الخطى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم
ماثلا بين يديه قال :
" نعيم بن مسعود !! "
قال رضي الله عنه : ( نعم يا رسول الله )
قال صلى الله عليه وسلم : " ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ "
قال رضي الله عنه : ( يا رسول الله .. جئت لأشهد أن لا إله إلا الله ،
وأنك عبد الله ورسوله ، وأن ما جئت به الحق ، ثم أردف يقول :
لقد أسلمت يا رسول الله وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمُرني
بما شئت )
فقال صلى الله عليه وسلم :
" إنما أنت فينا رجل واحد ، فاذهب إلى قومك وخذّل عنا إن استطعت ،
فإن الحرب خدعة "
~*¤
§ ][ الخدعة ][ §
¤*~
قال نعيم بن مسعود رضي الله عنه :
( لما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرت مع قومي ،
وأنا على ديني ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفا ، فأقامت
الأحزاب ما أقامت حتى أجدب الجناب وهلك الخف والكراع وقذف الله
عز وجل في قلبي الإسلام وكتمت قومي إسلامي ، فخرجت حتى آتي
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء فوجدته يصلي ،
فلما رآني جلس ثم قال ما جاء بك يا نعيم ؟
قلت : إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق ، فمرني بما شئت
يا رسول الله فوالله لا تأمرني بأمر إلا مضيت له ، فقومي لا يعلمون بإسلامي
ولا غيرهم .
قال ما استطعت أن تخذل الناس فخذل قال قلت :
أفعل ولكن يا رسول الله أقول فأذن لي .
قال قل ما بدا لك فأنت في حل .
قال فذهبت حتى جئت بني قريظة فلما رأوني رحبوا وأكرموا وحيوا
وعرضوا علي الطعام والشراب فقلت :
إني لم آت لشيء من هذا إنما جئتكم نصبا بأمركم وتخوفا عليكم
لأشيرعليكم برأي وقد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم .
فقالوا : قد عرفنا ذلك وأنت عندنا على ما تحب من الصدق والبر .
قال : فاكتموا عني .
قالوا : نفعل .
قال إن أمر هذا الرجل بلاء يعني ( النبي صلى الله عليه وسلم )
صنع ما قد رأيتم ببني قينقاع وبني النضير وأجلاهم عن بلادهم
بعد قبض الأموال .
وكان ابن أبي الحقيق قد سار فينا فاجتمعنا معه لنصركم وأرى
الأمرقد تطاول كما ترون وإنكم والله ما أنتم وقريش وغطفان
من محمد بمنزلة واحدة أما قريش وغطفان فهم قوم جاءوا سيارة
حتى نزلوا حيث رأيتم فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كانت
الحرب أو أصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم .
وأنتم لا تقدرون على ذلك البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم
وقد غلظ عليهم جانب محمد أجلبوا عليه أمس إلى الليل فقتل رأسهم
عمرو بن عبد وهربوا منه مجرحين وهم لا غناء بهم عنكم لما
تعرفون عندكم ، فلا تقاتلوا مع قريش ولا غطفان حتى تأخذوا منهم
رهنا من أشرافهم تستوثقون به منهم ألا يناجزوا محمدا .
قالوا : أشرت بالرأي علينا والنصح .
قال : ولكن اكتموا عني .
قالوا : نعم نفعل .
ثم خرج إلى أبي سفيان بن حرب في رجال من قريش فقال :
يا أبا سفيان قد جئتك بنصيحة فاكتم عني .
قال : أفعل .
قال : تعلم أن قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد
وأرادوا إصلاحه ومراجعته ، أرسلوا إليه وأنا عندهم إنا سنأخذ من
قريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلا نسلمهم إليك تضرب أعناقهم
وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم ( يعنون بني النضير ) ونكون
معك على قريش حتى نردهم عنك .
فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهنا فلا تدفعوا إليهم أحدا واحذروهم على
أشرافكم ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفا .
قالوا : لا نذكره .
ثم خرج حتى أتى غطفان ( وقال لهم مثل ما قال لقريش )
وكان رجلا منهم فصدقوه .
وأرسلت اليهود غزال بن سموأل إلى أبي سفيان بن حرب وأشراف
قريش : إن ثواءكم قد طال ولم تصنعوا شيئا وليس الذي تصنعون برأي
إنكم لو وعدتمونا يوما تزحفون فيه إلى محمد فتأتون من وجه وتأتي
غطفان من وجه ونخرج نحن من وجه آخر لم يفلت من بعضنا .
ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم يكونون
عندنا ، فإنا نخاف إن مستكم الحرب وأصابكم ما تكرهون شمرتم
وتركتمونا في عقر دارنا وقد نابذنا محمدا بالعداوة .
فانصرف الرسول إلى بني قريظة ولم يرجعوا إليهم شيئا ، وقال
أبو سفيان : هذا ما قال نعيم .
فخرج نعيم إلى بني قريظة فقال يا معشر بني قريظة أنا عند أبي سفيان
حتى جاء رسولكم إليه يطلب منه الرهان فلم يرد عليه شيئا فلما ولى
قال لو طلبوا مني عناقا ما رهنتها أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعونهم
إلى محمد يقتلهم فارتأوا آراءكم حتى تأخذوا الرهن فإنكم إن لم تقاتلوا
محمدا وانصرف أبو سفيان تكونوا على مواعدتكم الأولى .
قالوا : ترجو ذلك يا نعيم ؟
قال : نعم .
قال كعب بن أسد : فإنا لا نقاتله والله لقد كنت لهذا كارها ولكن حيي
رجل مشئوم .
قال الزبير بن باطا : إن انكشفت قريش وغطفان عن محمد لم يقبل
منا إلا السيف .
قال نعيم : لا تخش ذلك يا أبا عبد الرحمن .
قال الزبير : بلى والتوراة ، ولو أصابت اليهود رأيها ولحم الأمر
لتخرجن إلى محمد ولا يطلبون من قريش رهنا ، فإن قريشا لا تعطينا
رهنا أبدا ، وعلى أي وجه تعطينا قريش الرهن وعددهم أكثر من
عددنا ، ومعهم كراع ولا كراع معنا ، وهم يقدرون على الهرب
ونحن لا نقدر عليه ؟
وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف
فأبى محمد إلا السيف فهم ينصرفون بغير شيء .
فلما كان ليلة السبت كان مما صنع الله تعالى لنبيه أن قال أبو سفيان
يا معشر قريش ، إن الجناب قد أجدب وهلك الكراع والخف ، وغدرت
اليهود وكذبت وليس هذا بحين مقام فانصرفوا قالت قريش :
فاعلم علم اليهود واستيقن خبرهم .
فبعثوا عكرمة بن أبي جهل حتى جاء بني قريظة عند غروب الشمس
مساء ليلة السبت فقال يا معشر اليهود إنه قد طال المكث وجهد الخف
والكراع وأجدب الجناب ، وإنا لسنا بدار مقامة اخرجوا إلى هذا
الرجل حتى نناجزه بالغداة .
قالوا : غدا السبت لا نقاتل ولا نعمل فيه عملا ، وإنا مع ذلك لا نقاتل
معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهانا من رجالكم يكونون معنا
لئلا تبرحوا حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب
أن تشمروا إلى بلادكم وتدعونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به معنا
الذراري والنساء والأموال .
فرجع عكرمة إلى أبي سفيان فقالوا : ما وراءك ؟
قال أحلف بالله إن الخبر الذي جاء به نعيم حق ، لقد غدر أعداء الله .
وأرسلت غطفان إليهم مسعود بن رخيلة في رجال منهم بمثل
رسالة أبي سفيان فأجابوهم بمثل جواب أبي سفيان .
وقالت اليهود حيث رأوا ما رأوا منهم نحلف بالله إن الخبر الذي
قال نعيم لحق .
وعرفوا أن قريشا لا تقيم فسقط في أيديهم فكر أبو سفيان إليهم
وقال إنا والله لا نفعل إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا .
فقالت اليهود مثل قولهم الأول وجعلت اليهود تقول الخبر
ما قال نعيم ، وجعلت قريش وغطفان تقول الخبر ما قال نعيم .
ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء
واختلف أمرهم فكان نعيم يقول أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفرقوا
في كل وجه وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره )
~*¤
§ ][ وفاته ][ §
¤*~
ظل نعيم بن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك اليوم موضع ثقة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظل على عهده ، لا يبخل بماله
ولا بجهده ولا بنفسه في سبيل ربه تعالى حتى قتل في أول خلافة
علي رضي الله عنه في وقعة الجمل.
وقيل مات في خلافة عثمان رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة
اجمعين .